فصل: النوع الرابع عشر: في الاستدراج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الثالث عشر: في عكس الظاهر:

وهو نفي الشيء بإثباته، وهو من مستطرفات علم البيان، وذاك أنك تذكر كلاما يدل ظاهره أنه نفي لصفة الموصوف، وهو نفي للموصوف أصلا.
فمما جاء منه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنثى فلتاته أي لا تذاع سقطاته، فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع، وليس المراد ذلك، بل المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتثنى، وهذا من أغرب ما توسعت فيه اللغة العربية، وقد ورد في الشعر كقول بعضهم:
ولا ترى الضّبّ بها ينجحر

فإن ظاهر المعنى من هذا البيت أنه كان هناك ضب ولكنه غير منحجر، وليس كذلك بل المعنى أنه لم يكن هناك ضب أصلا.
وهذا النوع من الكلام قليل الاستعمال وسبب ذلك أن الفهم يكاد يأباه، ولا يقبله إلا بقرينة خارجة عن دلالة لفظه على معناه، وما كان عاريا عن قرينة فإنه لا يفهم منه ما أراد قائله.
وسأوضح ذلك فأقول: أما قولنا عن مجلس رسول الله لا تثنى فلتاته فإن مفهوم هذا اللفظ أنه كان هناك فلتات إلا أنها تطوى ولا تنشر، وتكتم ولا تذاع، ولا يفهم منه أنه لم يكن هناك فلتات إلا بقرينة خارجة عن اللف، وهي أنه قد ثبت في النفوس، وتقرر عند العقول، أن مجلس رسول الله منزه عن فلتات تكون به وهو أكرم من ذلك وأوقر، فلما قيل: إنه لا يثنى فلتاته فهمنا منه أنه لم يكن هناك فلتات أصلا، وأما قول القائل:
ولا ترى الضب بها ينجحر

فإنه لا قرينة تخصصه حتى يفهم منه ما فهم من الأول، بل المفهوم أنه كان هناك ضب ولكنه غير منجحر.
ولقد مكثت زمانا أطوف على أقوال الشعراء قصداً للظفر بأمثلة من الشعر جارية هذا المجرى فلم أجد إلا بيتا لامرئ القيس وهو:
على لاحب لا يُهتدي لمناره ** إذا سافه العود الديافي جرجرا

فقوله لا يهتدي لمناره أي أن له منارا إلا أنه لا يهتدي به، وليس المراد ذلك، بل المراد أنه لا منار له يهتدي به.
ولي أنا في هذا بيت من الشعر وهو:
أدنين جلباب الحياء فلن يرى ** لذيولهن على الطريق غبار

وظاهر هذا الكلام أن هؤلاء النساء يمشين هونا لحيائهن فلا يظهر لذيولهن غبار على الطريق، وليس المراد ذلك، بل المراد أنهن لا يمشين على الطريق أصلا، أي أنهن مخبآت لا يخرجن من بيوتهن، فلا يكون إذا لذيولهن على الطريق غبار، وهذا حسن رائق وهو أظهر بياناً من قوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر

فمن استعمل هذا النوع من الكلام فليستعمله هكذا وإلا فليدع، على أن الإكثار من استعماله عسر، لأنه لا يظهر المعنى فيه.

.النوع الرابع عشر: في الاستدراج:

وهذا الباب أنا استخرجته من كتاب الله تعالى وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، والكلام فيه وإن تضمن بلاغة فليس الغرض هاهنا ذكر بلاغته فقط، بل الغرض ذكر ما تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، وإذا حقق النظر فيه علم أن مدار البلاغة كلها عليه لأنه انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها، والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيرا في خلابه، لا قصيرا في خطابه، فإذا لم يتصرف الكاتب في استدراج الخصم إلى إلقاء يده وإلا فليس بكاتب، ولا شبيه له إلا صاحب الجدل فكما أن ذاك يتصرف في المغالطات القياسية فكذلك هذا يتصرف في المغالطات الخطابية.
وقد ذكرت هذا النوع ما يتعلم منه سلوك هذه الطريق.
فمن ذلك قوله تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} ألا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطفه، فغنه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه ولا يتعداه، أو يكون صادقا وإن يكن صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم له، وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك فأقول: إنما قال: {يصبكم بعض الذي} وقد علم أنه نبي صادق وأن كل ما يعدهم به لا بد وأن يصيبهم، لا بعضه، لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى عليه السلام، أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، ليكون أدعى إلى سكونهم إليه، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم إياه، فقال: {وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم} وهو كلام المنصف في مقابلة غير المشتط، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد به، لكنه أردف بقوله: {يصبكم بعض الذي يعدكم} ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا عن أن يتعصب له، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل، كأنه برطلهم في صدر الكلام بما يزعمونه لئلا ينفروا منه، وكذلك قوله في آخر الآية: {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} أي هو على الهدى، ولو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوة، ولا عضده بالبينات، وفي هذا الكلام من خداع الخصم واستدراجه ما لا خفاء به وقد تضمن من اللطائف الدقيقة ما إذا تأملته حق التأمل أعطيته حقه من الوصف.
ومما يجري على هذا الأسلوب قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} هذا كلام يهز أعطاف السامعين، وفيه من الفوائد ما أذكره، وهو لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه وينقذه مما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل، رتب الكلام معه في أحسن نظام، مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن، مستنصحا في ذلك بنصيحة ربه، وذاك أنه طلب منه أولاً العلة في خطيئته طلب منبه على تماديه موقظ غفلته لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب إلا أنه بعض الخلق يستخف عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيين فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر، يعني به الصنم، ثم ثنى ذلك بدعوته إلى الحق مترفقا به، فلم يسم أباه بالجهل المطلق ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معي لطائفة من العلم وشيئا منه، وذلك علم الدلالة على سلوك الطريق فلا تستنكف وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بهداية الطرق دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل، ثم ثلث ذلك بتثبيطه عما كان عليه ونهيه، فقال: إن الشيطان الذي استعصى على ربك وهو عدوك وعدو أبيك آدم هو الذي ورطك في هذه الورطة، وألقاك في هذه الضلالة وإنما ألغى إبراهيم عليه السلام ذكر معاداة الشيطان إلا التي تختص بالله، وهي عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته آدم وذريته، ثم ربّع ذلك بتخويفه إياه سوء العاقبة، فلم يصرح بأن العقاب لاحق به، ولكنه قال: {إني أخاف أن يمسك عذاب} فنكر العذاب ملاطفة لأبيه، وصدر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله: {يا أبت} توسلا إليه واستعظاما، وهذا بخلاف ما أجابه به أبوه، فإنه قال: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} فأقبل عليه بفظاظة الكفر، وغلظ العناد، فناداه باسمه ولم يقابل قوله يا أبت بقوله يا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله: {أراغب أنت} لأنه كان أهم عنده، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته.
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من هذا الجنس، لا سيما في مخاطبات الأنبياء صلوات الله عليهم للكفار، وفي هذين المثالين المذكورين هاهنا كفاية ومقنع وبلغني حديث تفاوض فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما ومعاوية بن أبي سفيان في أمر ولده يزيد، وذاك أن معاوية قال للحسين: أما أمك فاطمة فإنها خير من أمه، وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير من امرأة من كلب، وأما حبي يزيد فإني لو أعطيت به مثلك ملء الغوطة لما رضيت، وأما أبوك وأبوه فإنهما تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك، وهذا كلام من معاوية كلما أمررته بفكري عجبت من سداده، فضلا عن بلاغته وفصاحته، فإن معاوية علم ما لعلي رضي الله عنه من السبق إلى الإسلام والأثر فيه، وما عنده من فضيلة العلم، فلم يعرض في المنافرة إلى شيء من ذلك، ولم يقل أيضا: إن الله أعطاني الدنيا ونزعها منكم، لأن هذا لا فضل فيه، إذ الدنيا ينالها البر والفاجر، وإنما صانع عن ذلك كله بقوله: إن أباك وأباه تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك وهذا قول إيهامي يوهم شبهة من الحق، وإذا شاء من شاء أن ينافر خصمه ويستدرجه إلى الصمت عن الجواب فليقل هكذا.

.النوع الخامس عشر: في الإيجاز:

وهو حذف زيادات الألفاظ وهذا نوع من الكلام شريف لا يتعلق به إلا فرسان البلاغة من سبق الى غايتها وما صلى، وضرب في أعلى درجاتها بالقدح المعلى، وذلك لعلو مكانه وتعذر إمكانه.
والنظر فيه إنما هو إلى المعاني لا إلى الألفاظ، ولست أعني بذلك أن تهمل الألفاظ بحيث تعرى عن أوصافها الحسنة، بل أعني أن مدار النظر في هذا النوع إنما يختص بالمعاني فرب لفظ قليل يدل على معنى كثير، ورب لفظ كثير يدل على معنى قليل، ومثال هذا كالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة، فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم بكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولهذا سمى النبي صلى اله عليه وسلم الفاتحة أم الكتاب وإذا نظرنا إلى مجموعها وجدناه يسيرا وليست من الكثرة إلى غاية تكون بها أم البقرة وآل عمران وغيرها من السور الطوال، فعلمنا حينئذ أن ذلك الأمر يرجع إلى معانيها.
والكلام في هذا الموضع يخرج بنا إلى غير ما نحن بصدده، لأنه يحتاد فيه إلى ذكر المراد بالقرآن الكريم وما يشتمل عليه سوره وآياته إلى حصر أقسام معانيه، لكنا نشير في ذلك إشارة خفيفة فنقول: المراد بالقرآن هو دعوة العباد إلى الله تعالى، ولذلك انحصرت سوره وآياته في ستة أقسام ثلاثة منها هي الأصول وثلاثة هي الفروع.
أما الأصول فالأول منها: تعريف المدعو إليه، وهو الله تعالى، ويشتمل هذا الأصل على ذكر ذاته وصفاته وأفعاله، والأصل الثاني: تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إلى الله تعالى ويشتمل هذا الأصل على التبتل بعبادة الله بأفعال القلوب وأفعال الجوارح، والأصل الثالث: تعريف الحال بعد الوصول إلى الله تعالى، ويشتمل هذا الأصل على تفصيل أحوال الدار الآخرة من الجنة والنار والصراط والميزان والحساب وأشباه ذلك، فهذه الأصول الثلاثة.
وأما الفروع فالأول منها: تعريف أحوال المجيبين للدعوة، ولطائف صنع الله بهم من النصرة والإدالة، وتعريف أحوال المخالفين للدعوة والمحادين لها، وكيفية صنع الله في التدمير عليهم والتنكير بهم، والفرع الثاني: ذكر مجادلة الخصوم ومحاجتهم، وحملهم بالمجادلة والمحاجة على طريق الحق، وهؤلاء هم اليهود والنصارى ومن يجري مجراهم من أرباب الشرائع، والفلاسفة والملحدة من غير أرباب الشرائع، والفرع الثالث: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأهبة للاستعداد، وذاك قياس الشريعة وتبيين الحكمة في أوامرها التي تتعلق بأفعال أهل التكليف.
فهذه الأقسام الستة المشار إليها هي التى تدور معاني القرآن عليها ولا تتعداها وهاهنا تقسيم آخر يطول الخطاب فيه ولا حاجة إلى ذكره.
وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وتأملنا ما فيها من المعاني وجدناها مشتملة على أربعة أقسام من الستة المذكورة، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم: «أم الكتاب» كما أنه قال: «إن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن» وإذا نظرنا في الأقسام الستة وجدنا سورة الإخلاص بمنزلة ثلث القرآن، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: «آية الكرسي سيدة آي القرآن» ويروى أنه سأل أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: «أي آية معك في كتاب الله أعظم.؟ فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب على صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر» وكل هذا يرجع إلى المعاني لا إلى الألفاظ فاعرف ذلك وبينه لرموزه وأسراره.
واعلم أن جماعة من مدعي علم البيان ذهبوا إلى أن الكلام ينقسم قسمين: فمنه ما يحسن فيه الإيجاز كالأشعار والمكاتبات، ومنه ما يحسن فيه التطويل كالخطب والتقليدات وكتب الفتوح التي تقرأ في ملأ من عوام الناس فإن الكلام إذا طال في مثل ذلك أثر عندهم وأفهمهم، ولو اقتصر فيه على الإيجاز والإشارة لم يقع لأكثرهم حتى يقال في ذكر الحرب: التقى الجمعان وتطاعن الفريقان واشتد القتال، وحمي النضال، وما جرى هذا المجرى.
والمذهب عندي في ذلك ما أذكره، وهو أن يفهم العامة ليس شرطا معتبرا في اختيار الكلام لأنه لو كان شرطا لوجب على قياسه أن يستعمل في الكلام الألفاظ العامية المبتذلة عندهم، ليكون ذلك أقرب إلى فهمهم، لأن العلة في اختيار تطويل الكلام إذا كانت فهم العامة إياه فكذلك تجعل تلك العلة بعينها في اختيار المبتذل من الكلام، فإنه لا خلاف في أن العامة إلى فهمه اقرب من فهم ما يقل ابتذالهم إياه، وهذا شيء مدفوع وأما الذي يجب توخيه واعتماده فهو أن يسلك المذهب القويم في تركيب الألفاظ على المعاني، بحيث لا تزيد هذه على هذه، مع الإيضاح والإبانة، وليس على مستعمل ذلك أن يفهم العامة كلامه، فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا يكون ذلك نقصا في استنارته، وإنما النقص في بصر الأعمى حيث لم يستطع النظر إليه.
علي نحت القوافي من معادنها ** وما علي بأن لا تفهم البقر

وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فلنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمنا من الكلام على الإيجاز وحده وأقسامه، ونوضح ذلك إيضاحا جليا والله الموفق للصواب.
فنقول: حد الإيجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه، والتطويل هو ضد ذلك وهو أن يدل المعنى بلفظ يكفيك بعضه في الدلالة عليه كقول الهجير السلولي من أبيات الحماسة:
طلوع الثنايا بالمطايا وسابق ** إلى غاية من يبتدرها يقدم

فصدر هذا البيت فيه تطويل لا حاجة إليه، وعجزه من محاسن الكلام المتواصفة، وموضع التطويل من صدره أنه قال: طلوع الثنايا بالمطايا فإن لفظة المطايا فضلة لا حاجة إليها، وبيان ذلك أنه لا يخلو الأمر فيها من وجهين: إما أن يريد أنه سابق الهمة إلى معالي الأمور كما قال الحجاج على المنبر عند وصوله العراق:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

أي أنا الرجل المشهور السابق إلى معالي الأمور، فإن أراد العجير بقوله طلوع الثنايا ما أشرت إليه فذكر المطايا يفسد ذلك المعنى، لأن معالي الأمور لا يرقى إليها بالمطايا، وإن أراد الوجه الآخر وهو أنه كثير الإسفار، فاختصاصه الثنايا بالذكر دون الأرض من المفاوز وغيرها لا فائدة فيه، وعلى كلا الوجهين فإن ذكر المطايا فضلة لا حاجة إليه وهو تطويل بارد عث.
فقس على هذا المثال ما يجري مجراه من التطويلات التي إذا أسقطت من الكلام بقي على حاله لم يتغير شيء.
وكذلك يجري الأمر في ألفاظ يوصل بها الكلام فتارة تجيء لفائدة، وذلك قليل، وتارة تجيء لغير فائدة، وذلك كثير، وأكثر ما ترد في الأشعار ليوزن بها الأبيات الشعرية، وذلك نحو قولهم: لعمري ولعمرك، ونحو أصبح وأمسى وظل وأضحى وبات، وأشبها ذلك ونحو يا صاحبي ويا خليلي، وما يجري هذا المجرى فمما جاء منه قول أبي تمام:
أقروا لعمري لحكم السيوف ** وكانت أحق بفضل القضاء

فإن قوله لعمري زيادة لا حاجة للمعنى إليها، وهي حشو في هذا البيت، لا فائدة فيه إلا إصلاح الوزن لا غير، ألا ترى أنها من باب القسم، وإنما يرد القسم في موضع يؤكد به المعنى المراد، إما أنه مما يشك فيه أو مما يعز وجوده أو ما جرى هذا المجرى، وهذا البيت الشعري لا يفتقر معناه إلى توكيد قسمي، إذ لا شك في أن السيوف حاكمة، وأن كل أحد يقر لحكمها، ويذعن لطاعتها وكذلك قوله: أيضا:
إذا أنا لم ألم عثرات الدهر ** بليت به الغداة فمن ألوم

فقوله الغداة زيادة لا حاجة للمعنى إليها، لأنه يتم بدونها، لأن عثرات الدهر لم تنله الغداة ولا العشي، وإنما نالته، ونيلها إياه لا بد وأن يقع في زمن من الأزمنة كائنا ما كان، ولا حاجة إلى تعيينه بالذكر.
وعلى هذا ورد قول البحتري:
ما أحسن الأيام إلا أنها ** يا صاحبي إذا مضت لم ترجع

فقوله يا صاحبي زيادة لا حاجة بالمعنى إليها، إلا أنها وردت لتصحيح الوزن لا غير.
وهذه الألفاظ التي ترد في الأبيات الشعرية لتصحيح الوزن لا عيب فيها، لأنا لو عبناها على الشعراء لحجرنا عليهم وضيقنا، والوزن يضطر في بعض الأحوال إلى مثل ذلك، لكن إذا وردت في الكلام المنثور فإنها إن وردت حشوا ولم ترد لفائدة كانت عيبا.
وقد ترد في الأبيات الشعرية ويكون ورودها لفائدة وذلك هو الأحسن، كقول البحتري:
قوم أهانوا الوفر حتى أصبحوا ** أولى الأنام بكل عرض وافر

فقوله: أصبحوا بمعنى صاروا أولى الناس بالأعراض الوافرة، وهذه اللفظة لم ترد في هذا البيت حشوا كما وردت في بيتي أبي تمام المقدم ذكرهما.
وسأزيد هذا الموضع بياناً بمثال أضربه للتطويل، حتى يستدل به على أمثاله وأشباهه، والمثال الذي أضربه هو حكاية أوردت بمحضر مني، وذاك أنه جلس إلي في بعض الأيام جماعة من الإخوان وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئا، فقال شخص منهم: إني كنت بالجزيرة العمرية في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبيا صغيرا، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا إلى سطح طاحون لبني فلان، وأخذنا نلعب على السطح، فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون فوطئه بغل من بغال الطاحون، فخفنا أن يكون أذاه فأسرعنا النزول إليه فوجدناه قد وطئه البغل، فختنه ختانة صحيحة حسنة لا يستطيع الصانع الخاذق أن يفعل خيرا منها، فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عيّ فاحش، وتطويل كثير لا حاجة إليه، فإنه بصدد أن تذكر أنك كنت صبيا تلعب مع الصبيان على سطح الطاحون فوقع صبي منكم إلى أرض الطاحون فوطئه بغل من بغال الطاحون فختنه ولم يؤذه، ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه، ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحا في غرابتها، وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان، وكان زمن الملك فلان، فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليه، والمعنى المقصود يفهم دونه.
فاعلم أيها الناظر في كتابي هذا أن التطويل هو زيادات الألفاظ في الدلالة على المعاني، ومهما أمكنك حذف شيء من اللفظ في الدلالة على معنى من المعاني فإن ذلك اللفظ هو التطويل بعينه.
وأما الإيجاز فقد عرفتك أنه دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه.
وهو ينقسم قسمين: أحدهما الإيجاز بالحذف، وهو ما يحذف منه المفرد، والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون فيما زاد معناه على لفظه، والقسم الآخر: ما لا يحذف منه شيء وهو ضربان أحدهما: مأساوي لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر ما زاد معناه على لفظه ويسمى القصر.
واعلم أن القسم الأول الذي هو الإيجاز بالحذف يتنبه له من غير كبير كلفة في استخراجه لمكان المحذوف عنه.
وأما القسم الثاني فإن التنبه له عسر، لأنه يحتاج إلى فضل تأمل، وطول فكرة لخفاء ما يستدل عليه ولا يستنبط ذلك إلا من رست قدمه في ممارسة علم البيان، وصار له خليقة وملكة، ولم أجد أحدا علم هذين القسمين بعلامة، ولا قيدهما بقيد، وقد أشرت إلى ذلك فيما يأتي من هذا الباب عند تفصيل أمثلتهما فليؤخذ من هناك.
فإن قيل إن هذا التقسيم الذي قسمته في المحذوف وغير المحذوف ليس بصحيح لأن المعاني ليس أجساما كالألفاظ حتى يصح التقدير بينهما، ثم لو سلمت جواز التقدير في المساواة لم أسلم لجواز الزيادة، فليس لقائل أن يقول: هذا المعنى زائد على هذا اللفظ، لأنه إن قال ذلك قيل فمن أين فهمت تلك الزيادة الخارجة عن اللفظ، وقد علم أن الألفاظ إنما وضعت للدلالة على إفهام المعاني، فإن قال: إنها فهمت من شيء خارج عن اللفظ، قيل له: فتلك الزيادة بإزاء ذلك الشيء الخارج عن اللفظ، والباقي مساو اللفظ، وإن قال: إنها فهمت من اللفظ، قيل: فكيف تفهم منه وهي زائدة عليه؟ فإن قال: إنها فهمت من تركيبه، لأن التركيب أمر زائد على اللفظ، قيل: الألفاظ تدل بانفرادها على معنى، وبتركيبها على معنى آخر، واللفظ المركب يدل على معنى مركب، واللفظ المفرد يدل على معنى مفرد، وتلك الزيادة إن أريد بها زيادة معنى المركب على المركب فلا يخلو: إما أن تكون تلك الزيادة مفهومة من دلالة اللفظ المركب عليه، إذ لو كانت زائدة عليه لما دل عليها، وإن كانت مفهومة من دلالة الشيء الخارج عنه فهي بإزاء ذلك الشيء الخارج والباقي مساو للباقي.
فالجواب عن ذلك أن نقول: هذا الذي ذكره كلام شبيه بالسفسطة، وهو باطل من وجهين: أحدهما: أن المعاني إذا كانت لا تزيد على الألفاظ فيلزم من ذلك أن الألفاظ لا تزيد أيضاً على المعاني لأنهما متلازمان على قياسك، ونحن نرى معنى قد يدل عليه بألفاظ فإذا أسقط من تلك الألفاظ شيء لا ينقص ذلك المعنى، بل يبقى على حاله، والوجه الآخر: إن الإيجاز بالحذف أقوى دليلا على زيادة المعاني على الألفاظ لأنا نرى اللفظ يدل على معنى لم يتضمنه، وفهم ذلك المعنى ضرورة لا بد منه، فعلمنا حينئذ أن ذلك المعنى الزائد على اللفظ مفهوم من دلالته عليه.
فإن قيل: إن المعنى الزائد على اللفظ المحذوف لا بد له من تقدير لفظ آخر يدل عليه وتلك الزيادة بإزاء اللفظ المقدر.
قلت في الجواب عن ذلك: هذا لا ينقض ما ذهبت إليه من زيادة المعنى على اللفظ، لأن المعنى ظاهر، واللفظ الدال عليه مضمر، وإذا كان مضمرا فلا ينطق به، وإذا لم ينطق به فكأنه لم يكن، وحينئذ يبقى المعنى موجودا، واللفظ الدال عليه غير موجود، وكذلك كل ما يعلم من المعاني بمفهوم الخطاب، ألا ترى أنك إذا قلت لمن دخل عليك: أهلا وسهلا، علم أن الأهل والسهل منصوبان بعامل محذوف تقديره وجدت أهلا ولقيت سهلا، إلا أن لفظتي وجدت ولقيت محذوفتان، والمعنى الذي دل عليه باق، فصار المعنى حينئذ مفهوما مع حذفهما فهو إذا زائد لا محالة وكذلك جميع المحذوفات على اختلافها وتشعب مقاصدها، وهذا لا نزاع فيه لبيانه ووضوحه.
وقد سنح لي في زيادة المعنى على اللفظ في غير المحذوفات دليل أنا ذاكره، وهو أنا نجد من الكلام ما يدل على معنيين وثلاثة، واللفظ واحد، والمعاني التي تحته متعددة فأما الذي يدل على معنيين فالكنايات جميعها، كالذي ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا خرجوا من عنده لا يتفرقون إلا عن ذواق، وهذا يدل على معنيين أحدهما إطعام الطعام أي أنهم لا يخرجون من عنده حتى يطعموا، الآخر: أنهم لا يتفرقون إلا عن استفادة علم وأدب يقوم لأنفسهم مقام الطعام لأجسامهم.
وأما الذي يدل على ثلاثة معان فكقول أبي الطيب المتنبي:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ** لمن بات في نعمائه يتقلب

فهذا يدل على ثلاث معان: الأول: أنه يحسد من أنعم عليه، الثاني: ضد الأول الثالث: أنه يحسد كل رب نعمة كائنا من كان: أي يحسد من بات في نعماء نفسه يتقلب.
وهذا وأمثاله من أدل الدليل على زيادة المعنى على اللفظ، وهو شيء استخرجته ولم يكن لأحد فيه قول سابق.
وحيث فرغنا من الكلام على هذا الموضع فلنتبعه بذكر أقسام الإيجاز المشار إليها أولاً وما ينصرف إليه، فنقول: